سورة التوبة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ}.
أولو الطول: الطول: من طال الشيء بطوله، أي قدر عليه وتمكن منه.. وأولوا الطول: هم أصحاب القدرة التي تمكن لهم من بلوغ ما لا يستطيع غيرهم بلوغه، يجاههم، وسلطانهم، وأموالهم.
والآية الكريمة، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم، وهم أصحاب الرياسة، والسيادة، والقدرة فيهم.
هؤلاء المنافقون {إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من اللّه سبحانه وتعالى، يذكرهم بالإيمان باللّه، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول اللّه.. {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ} أي بادر أصحاب الطول هؤلاء، إلى التحلل من هذا الأمر، بالاعتذار إلى رسول اللّه، واستئذانه في أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد في سبيل اللّه.
وفى قولهم {ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ} ما يكشف عن استخفافهم بأمر اللّه، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
أي قد سولت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، ممن لا طول لهم ولا حول، من المرضى، والزّمنى، وأصحاب العاهات والعلل، والأطفال، والنساء، والإماء، والعبيد- رضوا أن يكونوا مع هذه الطوائف من الناس، وهم أصحاب طول وحول، لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم وبين هذه الطوائف أمر جامع، أو صفة مشتركة.. فكيف وهم أصحاب الحول الطول ينزلون إلى هذا المستوي الذي يضيفهم إلى مجتمع الصبيان والعبيد؟ ولكن هكذا أرادوا أن يكونوا، وهكذا صنعوا بأيديهم هذا الثوب الذي لبسوه.
ثوب الصّغار والامتهان.
وفى قوله سبحانه: {وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه- لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم في عمى، وقلوبهم في غفلة، وعقولهم في ضلال.
وقوله تعالى: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر اللّه بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد..
فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه.. فما أن دعاهم اللّه ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا.
وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم للّه بتخلفهم ثوب الخزي ولذلة، فإن رسول اللّه والمجاهدين معه، قد تلقاهم اللّه حفيّا بهم، موسعا لهم في رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم في الأرض، وأعدّ لهم في الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار.. ورضوان من اللّه أكبر.
ذلك هو الفوز العظيم.
وفى قوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ}.
العطف هنا بالواو، إشارة إلى ما للرسول والمؤمنين المجاهدين معه، عند اللّه، من أوصاف كريمة، غير تلك الأوصاف التي وصفها اللّه بهم، وأن ما وصفوا به هنا ليس إلا من قبيل التنويه والإشارة إلى تلك الأوصاف التي لا تحصر، وإن كان ذكر قليلها يغنى عن كثيرها، لأنها كلها من باب واحد، هو باب الخير والإحسان.. ويكون من مفهوم الآية الكريمة.. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.. أولئك رضى اللّه عنهم، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وفى تكرار الإشارة إلى الرسول والمؤمنين المجاهدين في قوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تأكيد للتنويه بهم، وتقرير لدرجتهم العالية، ومنزلتهم الكريمة التي أنزلهم اللّه إياها.. كما أن في ذلك إشارة إلى أن مقامهم هذا الرفيع الذي هم فيه، لا تبلغه الإشارة التي يقصر عنها النظر، وأنه لكى يمكن أن يرتفع النظر إلى هذا المستوي، ينبغى أن يكون ذلك على مراحل يقطعها صعدا في الوصول إليهم.
{أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ}.
فانظر إليهم.. إنهم هنا! لا.. إنهم هناك.. ولا.. إنهم فوق هذا.. {أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير!


{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} الواو في قوله تعالى {وجاء} تصل ما انقطع من حديث القرآن عن المنافقين، وما كشف من وجوههم المنكرة، وما فضح من أساليبهم المخادعة المضللة.
والفعل {جاء} في امتداد مقطعه هكذا {جاء} وفى تذبذب أنغامه بين همس الواو وجهر الجيم، وخطف الهمزة- برسم صورة مكتملة الألوان والظلال للمنافقين، وهم في طريقهم إلى النبىّ، متحاملين متثاقلين، تدور أعينهم هنا وهناك، حذرا من أن تفضحهم أعذارهم التي بين أيديهم، يسوقونها إلى النبىّ، ويدفعون بها في خوف وخطف واضطراب.
ثم هم في موكبهم الطويل إلى رسول اللّه أنماط مختلفة.
منهم.. السفيه الوقح، الذي لا يعرف الحياء وجهه.. فيجىء خفيفا مسرعا، يبادر القوم قبل أن يسبقوه، فيأخذوا عليه الطريق إلى ما يعتذر به، إذ كانوا قد استنفذوا الأعذار بين يدى رسول اللّه.
ومنهم من لا يعرف له عذرا.. ولكنه لا بدّ أن يعتذر، لأنه لا يريد أن يكون في المجاهدين.. فيمشى إلى النبيّ متثاقلا متحاملا.. حتى تنكشف له وجوه الأعذار التي يعتذر بها المعتذرون، لعله يقع على واحد منها!! ومنهم من يقطع الطريق إلى النبىّ ولا يبلغه، بل يقف بعيدا يتسمّع الأنباء عن المعتذرين وما يعتذرون به وما يقوله النبىّ لهم! ومنهم.. ومنهم.
إنهم أشكال متعددة، وأنماط مختلفة.. ولكنهم جميعا على طريق النفاق سائرون، وعلى نية التخلف عن الجهاد قائمون.
{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}.
والمعذّرون هم أصحاب الأعذار ومختلقوها.. فخلق الأعذار واصطناعها هو عملهم، والصفة الغالبة عليهم.. كما يقال: المهندسون، والمعلمون.. فهم صناع الأعذار، لا صنعة لهم غير هذا.
والأعراب: جمع أعرابى، وهم سكان البادية.
وانظر في وجه النظم القرآنى، يشهدك على هؤلاء الأعراب، وقد جاءوا من شتى الجهات، بعد أن سمعوا دعوة الرسول إليهم بقوله. {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءوا لا لينتظموا في صفوف المجاهدين، ولا ليقاتلوا في سبيل اللّه، وإنما جاءوا ليعتذروا عن الجهاد، وليقدموا من المعاذير ما في جهدهم، كما يقدم المجاهدون في سبيل اللّه أموالهم وأنفسهم!! فما أتعس هذا المجيء، وما أشأم ذلك السعى! قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} هو الوصف الذي وصف به أولئك المعذّرون، والسّمة التي وسموا بها.. فهم الذين قعدوا متخلفين عن الجهاد، وهم الذين افتروا الكذب على اللّه ورسوله، بهذه الأعذار التي اختلقوها وجاءوا إلى النبىّ بها.
وفى هذا الخبر تهديد ووعيد لهم.. إذ ليس مرادا به الإخبار عنهم، وأنهم قعدوا، وإنما هو خبر يكشف عن جريمة غليظة، ويحدّث عن منكر عظيم.
وفى قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} حكم عليهم بالإدانة، وبأن هذه الأعذار التي اعتذروا بها إنما هى محض كذب وافتراء.. إذ هم الذين كذبوا اللّه ورسوله.. وقد عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، ليعرضوا هذا العرض الكاشف عن كذبهم، ويسمعوا حكم اللّه عليهم.
وقوله سبحانه: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو بيان للجزاء الذي أحذ به هؤلاء المعذّرون الذين كذبوا اللّه ورسوله، وأنهم جميعا من أهل الكفر، ولا مثوى للكافرين غير النار وعذاب السعير.
وحرف الجرّ في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} للبيان، لا للتبعيض.
فكل هؤلاء المعذّبين من الكافرين فليس فيهم كافر وغير كافر، بل كلهم كافرون.
أما أصحاب الأعذار الحقيقة فقد أغناهم اللّه سبحانه وتعالى عن أن يقفوا هذا الموقف، فعذرهم للّه قبل أن يعتدروا، ورفع عنهم الحرج، في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} فهؤلاء أصحاب أعذار ظاهرة، ينطق بها لسان الحال، قبل أن ينطق بها لسان المقال.. فالشريعة الإسلامية قائمة على اليسر، ورفع الحرج عن المؤمنين، فلا إعنات فيها، ولا مشقّة أو عسر في تكاليفها.. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.}.
فالضعفاء.. من شيوخ، وأطفال، ونساء، وعبيد وإماء، والمرضى وأصحاب العاهات المانعة من السفر والقتال- هؤلاء جميعا ومن في حكمهم لا حرج عليهم في أن يتخلفوا عن ركب المجاهدين، {إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إذا كانت قلوبهم سليمة عامرة بالإيمان، تربط مشاعرهم بمشاعر المؤمنين المجاهدين في سبيل اللّه.. فهم مع المجاهدين بمشاعرهم كلها. يدعون لهم بالنضر، ويتمنون لهم الغلب والسّلامة، ويخلفونهم في أهلهم، ويقومون على رعاية أبنائهم وأزواجهم، وقضاء حوائجهم، ورفع الضرّ عنهم، ومواساة من أصيب منهم في أب، أو أخ، أو زوج، إلى غير ذلك ممّا يبعث في نفس المجاهد الطمأنينة، ويطلق يديه كليهما، ووجوده كلّه، للعمل في ميدان المعركة، ومواجهة العدوّ.
وبهذا يكون المؤمنون جميعا في ميدان المعركة. سواء منهم من شهدها وحارب فيها، أو من تخلّف، بما معه من عذر، ونصح للّه ورسوله، في سلوكه الطيب، مع من يخلّفهم المحاربون وراءهم من أهل وولد، وفى مشاعره المتجهة إلى المجاهدين في ميدان القتال، والدعاء لهم بالنصر وتمنّيه لهم.
وقوله تعالى: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} إشارة إلى أن هذا الذي يبدله المتخلفون من ذوى الأعذار، من نصح للّه ورسوله، وراء جبهة القتال، هو غاية ما في مستطاع هؤلاء المتخلفين، وهو ميدانهم الذي يكون لهم فيه عمل وإحسان.. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
فإذا أعطى المؤمن- في باب الإحسان- ما وسعته نفسه، فهو في المحسنين.
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة أيضا إلى أن الذي يوجّه نفسه للإحسان، ويعمل له، هو محسن، وإن قصّر فيما عمل، ولم يبلغ غاية الإحسان.. فرحمة اللّه واسعة، ومغفرته شاملة، يتقبل من المحسنين أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} [16: الأحقاف].
وقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا} هو معطوف على قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى..} أي ليس حرج على هؤلاء الذين أتوك لتحملهم، أي تهيىء لهم مركبا ينقلهم إلى ميدان الجهاد.. والخطاب للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم، وقد جاءه جماعة من فقراء المسلمين، صحّت نيتهم على الغزو والجهاد، ولكنهم عجزوا عن أن يجدوا مركبا يركبونه، فجاءوا إلى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه في جيش المجاهدين، ولم يكن بين يدى النبىّ، ولا في جيش المسلمين ما يحملهم عليه، فقال لهم- صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا أجد ما أحملكم عليه».
فامتلأت نفوسهم أسى وحسرة، وفاضت دموعهم ألما وحزنا، أن فاتهم حظهم من الجهاد، وإن لم يكن في أيديهم ما ينفقونه في سبيل اللّه، وفى إعداد المركب الذي يحملهم مع المجاهدين: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ}.
وهؤلاء هم الذين عرفوا في المسلمين بالبكائين.
وإذا كان بكاء الرجال مذموما في كل موطن، إلّا أنه هنا في هذا المقام- مقام التعامل مع اللّه- محمود غاية الحمد، بل ومطلوب من المؤمن أن يكون هنا حاضر الدمعة غزيرها.. وفى الحديث: «إن لم تبكوا فتباكوا».
فالدمعة هنا دمعة عزيزة على اللّه، لا تقع على الأرض، كما تقع دموع الباكين، فتضيع بددا.. وإنما تتلقاها ملائكة الرحمن، فإذا هى نهر جار من نور، يغمر فيه صاحبها، فإذا هو خلق من نور، أصفى من الجوهر، وأضوأ من شمس الضحى، يقول الرسول الكريم: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه..».


{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}.
التفسير:
فى الآية السابقة على هذه الآيات، رفع اللّه الحرج عن الضعفاء والمرضى، وعن الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا هم لم يكونوا في موكب المجاهدين الذين يلقون العدوّ في ميدان القتال، إذ كانوا ومعهم أعذارهم التي تحول بينهم وبين القيام بهذا الأمر الذي ندب اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين له.
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ... ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.
(الآية 91).
وفى هذه الآية: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ} اتهام ومؤاخذة لمن تخلّفوا عن الجهاد، ولا عذر لهم.. لأنهم قادرون- بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم، فهم ليسوا ضعفاء، أو مرضى، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد الذي يتزودون به للسفر.. من طعام، وحمولة، وسلاح..!
وعلّة واحدة لا غير، هى التي قعدت بهم عن أن يكونوا في المجاهدين، هى أنهم {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}.
إنه لا شيء يقعدهم عن هذا الأمر إلا إيثارهم العافية والسلامة لأنفسهم، وإلّا ضنّهم بالمال وبالجهد عن البذل في سبيل اللّه.. وذلك خذلان منهم للّه، فكان أن خذلهم اللّه، {وطبع اللّه على قلوبهم} فلم يروا بها سوء ما هم عليه.. {فهم لا يعلمون} ما وقع عليهم من غبن في هذا الموقف الذي وقفوه من أمر اللّه، والجهاد في سبيل اللّه.
وفى مخالفة النظم لمقتضى السياق، في قوله تعالى: {إنما السبيل} إذ كان من مقتضى السياق أن يكون: إنما الحرج- في هذا ما يشير إلى ما بين الحالين من اختلاف.
فالضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون- هؤلاء ومن على شاكلتهم، واقعون تحت عفو اللّه، غير مطالبين بما هو مطلوب من أهل القوة والصحة والغنى.. فلا حرج عليهم، ولا جناح، إذا هم كانوا من المتخلفين.
أما هؤلاء الأغنياء الذين تخلّفوا عن قدرة، فهم في مقام المؤاخذة، وفى معرض الجزاء والعقاب، ومن هنا كان السبيل مفتوحا، والطريق مكشوفا للجزاء الذي هم أهل له، وللعقاب الذي لا بدّ هو واقع بهم، إن عاجلا وإن آجلا.
ويشهد لهذا المعنى، قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [42: الشورى].. فهؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، قد عرّضوا أنفسهم للنقمة والبلاء، وإنّه لا عاصم لهم يدفع عنهم هذا البلاء الذي سيحل بهم.. وقوله سبحانه: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [90: النساء] أي أن هؤلاء الكافرين الذين اعتزلوا القتال الذي بين المسلمين وبين الكافرين، وفاءوا إلى السّلم، ولم يبسطوا أيديهم أو ألسنتهم بأذى للمسلمين- فليس للمسلمين سبيل إلى قتالهم.
فانظر في وجه هذا الكلام المشرق، تجد أنه كلام- وإن أخذ من أفواه الناس- قد نظمته بد القدرة، وجاءت به على هذا الإعجاز المبين.. فسبحان سبحان من هذا كلامه.
وقوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو إخبار للنبىّ والمؤمنين، وإنذار للمنافقين وذوى الأعذار الكاذبة، إخبار بما سيكون من هؤلاء المنافقين والمعذّرين حين يلقون النبىّ والمؤمنين بعد عودتهم من غزوة تبوك- بما لفّقوا من أعذار، وما نسجوا من أكاذيب، يبرّرون بها تخلفهم عن الجهاد مع المجاهدين.
وقد أمر اللّه النبىّ والمؤمنين أن يبهتوا هؤلاء المعذّرين، وأن يفضحوهم على رءوس الأشهاد.. {لا تَعْتَذِرُوا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}.
أي لن نصدّق ما تعتذرون به، ولن نقبله.. وليس هذا مما يشهد به حالكم، وتفضحه ألسنتكم وحسب، وإنما هو مما علمه اللّه منكم، وأطلع نبيّه عليه: {قد نبأنا اللّه من أخباركم}.
وقوله تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي سيرى اللّه ورسوله ما يكون منكم بعد هذا من مواقف حيال الإسلام والمسلمين، من بغى وعدوان، ومخادعة ونفاق، أو مسالمة وسلام.
ومعنى الرؤية هنا، العلم القائم على واقع الحال.
وهذا ما جعل الرؤية معلقة على المستقبل: {وسيرى اللّه عملكم ورسوله} أي في حال تلبّسهم بما يعملون. أما رؤية اللّه سبحانه فهى مطلقة تشمل الزمان والمكان جميعا.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تهديد لهؤلاء المعذّرين، بوضعهم تحت المراقبة التي لا تغفل، والتي تعلم سرّهم وجهرهم، وتأخذهم جميعا بما عملوا، فلا يفلت منهم أحد.
قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
يكشف عمّا في وجوه المنافقين من صفاقة، وأنهم لا يكترثون كثيرا بما يحببهم به النبىّ والمؤمنون من ردّ وردع، ومن تكذيب وبهت.
والمنافق لا يلبس أثواب النفاق إلّا إذا كان صفيقا، لا يعرف الحياء سبيلا إليه، ولو كان في وجه المنافق شيء من الحياء، لما رضى لنفسه أن يلقى الناس بشخص غير شخصه، وبوجود غير وجوده! وليس هكذا شأن المؤمن باللّه.. إنه بإيمانه باللّه، واستناده إلى أقوى الأقوياء، لا يرى في هذا الوجود قوة يخشى بأسها، أو يرهب سلطانها، مادام مستمسكا بالحق، مستقيما على طريق العدل والإحسان.. ورحم اللّه البوصيرى إذ يقول:
ومن تكن برسول اللّه نصرته *** إن تلقه الأسد في آجامها تجم
فالاستنصار برسول اللّه، هو التمسك بالشريعة التي جاء بها صلوات اللّه وسلامه عليه، فذلك هو الإيمان باللّه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ..}.
وهكذا، كل من استقام على طريق الحق، يجد من نفسه القوة التي تنأى به عن سفساف الأمور، وترفعه عن الدنايا، فلا يأتى ما يخلّ بالمروءة، أو يشين الشرف..!
وليس هذا في الإنسان وحده، بل إنه في عالم الحيوان.. فالحيوان الضعيف، يقوّى ضعفه بالاحتيال والمخادعة.. على حين أن الحيوان القوى يأخذ في حياته خطّا مستقيما واضحا.. وشتان بين الثعلب، والأسد.. فذاك من ضعفه مخادع مخاتل، وهذا من قوته ظاهر واضح. ذاك يأكل الجيف ولا يعافها، وهذا يعفّ عن أن يلوّث فمه بالميتة وإن هلك جوعا..!
وأكثر من هذا، فإن عالم النبات يجرى على هذا الأسلوب من الحياة.
الشجرة القوية، الطيبة، لا تأوى إليها الهوام، ولا تندس فيها الحشرات.. على حين أن الأشجار الواهية الضعيفة تكون مباءة للآفات، ومرتعا للحشرات والهوامّ.
وأكثر من هذا أيضا.. عالم الجماد تجد فيه هذه الظاهرة واضحة على أتمّها.. فالأرض الصلبة لا تشوّه وجهها الأخاديد والحفر..! والمرتفع من الأرض لا يكون مستودعا للمياه الراكدة، والمستنقعات.. وقمة الجبل لا تكون محطّا لخسيس الطير أبدا.
القوّة أبدا.. هى موطن السلامة والعافية، وهى مستودع الخير والحسن.
فإذا كانت القوة قوة منبعثة من إيمان يعمر القلب، ويغذّى الوجدان، كانت قوة كلّها خير، ورحمة، وإحسان.
والإيمان هو الزاد الذي يغذّى القوة الروحية في الإنسان، ذلك الزاد الذي تتجمع عناصره من الأعمال الصالحة التي نمت في ظل الإيمان، والتي تجمعها التقوى التي يقول اللّه سبحانه وتعالى فيها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} فهؤلاء المنافقون الذين ردّهم النبىّ والمؤمنون، وفضحوا ما جاءوا إليهم به من أعذار- هاهم أولاء يجيئون إلى النبىّ والمؤمنين بوجه آخر من وجوه نفاقهم، يجيئون بأعذارهم تلك التي كذّبها اللّه، وفضحها النبىّ والمؤمنون، فيزكّونها بالحلف كما يذكّى الذابح البهيمة بالذبح، بعد أن تموت وتتعفّن!! وماذا يريدون بهذا الحلف الكاذب؟
يريدون أن يقبل النبىّ والمؤمنون أعذارهم، وأن يصدقوا منهم هذا الكذب المفضوح، وبهذا يتحقق لهم أمران:
الأمر الأول: عدم فقدان الثقة في أنفسهم، وفى تلك البضاعة التي يتعاملون بها، لأنه لا وجود لهم إذا أفلت من بين أيديهم هذا الزاد الذي يعيشون فيه، وبارت تلك البضاعة التي هى رأس مالهم في الحياة.
وثانى الأمرين- وهو تبع للأمر الأول- أن يعرض النبىّ والمؤمنون عنهم، فلا يأخذونهم باللّوم، ولا يضعونهم موضع الاتهام.
وقد دعا اللّه النبىّ والمؤمنين أن يعرضوا عنهم، ولكن لا إعراض المصدّق أو المتسامح، بل إعراض المشمئز المتقزّز النافر من شيء كريه، تؤذيه رائحته: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
فإنهم لو سلموا من أذى النبىّ والمسلمين، فلن يسلموا من عقاب اللّه، ومن عذاب السعير المعدّ لهم.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.
هو بيان لحلف يحلف به المنافقون، يريدون به أكثر مما يريده الذين حلفوا منهم، وكانوا يريدون به أن يعرض عنهم النبي والمؤمنون، فلا ينالوهم بأذى.
أما هؤلاء، فإنهم يبغون بحلفهم أن يرضى النبىّ والمؤمنون عنهم، وأن يخلطوهم بهم..!
وقد أيأس اللّه المنافقين من أن ينالوا بحلفهم هذا الرضا الذي طلبوه، وأنه حتى لو رضى النبي والمؤمنون عنهم- وهذا ما لا يكون أبدا- فلن يرضى اللّه عنهم: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.
قوله تعالى: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
تشير الآية الكريمة هنا إلى ما للبيئة من أثر في طبيعة الإنسان، وفى رسم معالم شخصيته، وتحديد مواقفه من الحياة.
والبادية، وما فيها من جفاف، وجدب وقسوة، قد طبعت الكائنات فيها- وبخاصة الإنسان- بطابعها الجاف الجديب القاسي.. وفى المثل: من بدا جفا.
ومن هنا كانت الطبيعة الحادّة في نفس البدوىّ، ذاهبة به مذهب الغلوّ والتطرف.
فالمنافقون من أهل البادية على نفاق أشد وأسوأ من نفاق سكان الحضر.
وكذلك كفرهم.. هو كفر غليظ كثيف مغلق، لا تطلع عليه ضوءة من الحق أبدا، وإنهم لبعدهم عن مواقع الهدى من رسول اللّه، ومن المؤمنين، قد فاتهم خير كثير، إذ لم يعلموا ما بين يدى اللّه من دين اللّه، ومن شريعة اللّه.. ومن علم منهم شيئا من هذا، لم يعلمه علم تحقق ويقين.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} دعوة لهؤلاء الأعراب أن ينزعوا لباس البداوة، وأن يخرجوا من حياتهم تلك، إلى حياة الحضر، وأن يقتربوا من مواطن العلم والمعرفة، حيث يلقون رسول اللّه، ويأخذون عنه، ويخالطون المؤمنين، ويحذون حذوهم.. فاللّه سبحانه {عليم حكيم} ولا يعرف الطريق إلى اللّه، ويحسن التعامل معه، إلا أهل العلم والحكمة.
فالإسلام إذ يشنع على البداوة، وإذ يصم أهلها بالنفاق الكريه، والكفر الغليظ، والجهل الفاضح- الإسلام بهذا يدعو إلى العمران، ويحرض على المدنية، ويبغض إلى الناس العزلة والوحشة وقبول الحياة، كما هى، من غير معالجة لأشيائها، ووضع بصمة الإنسان العالم الحكيم عليها.
قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
الأعراب الذين دخلوا في الإسلام على غير علم أو نظر، لم يكن لهذا الدين أثر في نفوسهم، ولا لشريعته حساب في ضمائرهم.. إنهم مسلمون، وليسوا مؤمنين، كما وصفهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [14: الحجرات] هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق في سبيل اللّه، بحكم أنهم مسلمون، تجب عليهم الزكاة، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل اللّه- إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم، لا عن طواعية واختيار، ولهذا يعدّون ما ينفقون في هذا الوجه مغرما، لأنهم أنفقوه في غير ما يشتهون، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات.
والدوائر جمع دائرة، وهى خط أشبه بالحلقة، يدور حول نقطة ارتكاز في وسطه.. وقد استعيرت للشر يقع بالإنسان أو الجماعة، في مجال الصراع مع قوة أخرى معادية، فيقال دارت عليهم الدائرة، أي هزموا، وذلك يعنى أنهم قد أطبق عليهم العدوّ وأحكم عليهم إغلاق طريق الإفلات أو الفرار، فكانوا وكأنّ العدوّ دائرة عليهم.
وقد ردّ اللّه على المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدائرة بقوله: {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ}.
فقضى اللّه عليهم هذا القضاء، وتوعدهم به، وهو أن الدائرة التي ينتظرونها في المسلمين، لن تقع في المسلمين، الذين سيكتب اللّه لهم العزة والغلب، وإنما ستحلّ الدائرة بهؤلاء المنافقين، وسينزل بهم الخزي والسوء.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تهديد لهؤلاء المنافقين بمراقبة اللّه سبحانه وتعالى لهم، واطّلاعه على ما يسرّون وما يعلنون، وأنه سبحانه مؤاخذهم بما كانوا يكسبون.
قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ.. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ليس الأعراب جميعا على حال سواء، فإذا كانت الصحراء تنبت الشوك والحسك، وتؤوي الوحوش والحيّات، فإنها تخرج العرار والريحان، وتتحلّى بالظّباء والنّعام.
وإذا كان في أعراب البادية، الجفاة، وأهل الوحشة والجهالة، فإن فيهم ذوى النفوس الرقيقة، والقلوب المتفتحة، والوجدانات الشفيفة.. التي تذوب رقة وعذوبة.. إن هؤلاء أشبه بالأنسام العليلة الرطبة، التي تهمس بها أنفاس الصحراء بين الحين والحين في آذان الأصائل والأشجار، فتبعث الرّوح والعافية في كيان الأحياء، التي كادت تهلك من لفحات الهجير، ووقدات السّموم!.
ففى أعراب البادية الشعراء، والحكماء، وأصحاب الفراسة والألمعية التي تلمح بذكائها الفطري ما لا تلمحه العين المبصرة وراء المجهر، وتكشف بصدق حدسها وظنّها من خفايا النفوس، ما لا يكشفه عالم النفس بأدوات علمه، ومقاييس فنّه.
والذين دخلوا الإسلام من هؤلاء الأعراب، من ذوى النظر، والحكمة، قد عرفوا هذا الدّين معرفة كاشفة، فازدادت به بصائرهم استضاءة وتألفا، واستروحت منه قلوبهم روح الطمأنينة واليقين.. فصحبوا هذا الدين صحبة المؤاخاة والمخالطة، وعايشوه معايشة الأمن والعافية، وأمسكوا به إمساك الأرض الطيبة هو اطل الغيث السّخىّ.. فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. فإذا أنفق هؤلاء المؤمنون من الأعراب نفقة في سبيل اللّه احتسبوها قربات يتقربون بها إلى اللّه، ويبتغون بها مرضاته، ويلتمسون منها صلوات اللّه وبركات دعائه.
وفى قوله تعالى: {وَصَلَواتِ الرَّسُولِ} بالعطف على قوله سبحانه: {قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى أن صلوات الرسول، أي دعاءه لمن يقدّم له الصدقات، هى مما يتقرب به المتقربون إلى اللّه.. فهى صدقات إلى صدقاتهم، يضيفها الرسول إليهم لتزيد في قربهم إلى اللّه.
فلقد، كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- يصلّى على المتصدق، أي يدعو له، بالخير، والبركة، وذلك امتثالا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ} هو توكيد للمفهوم الضمنى الذي أفاده عطف صلوات الرسول على قوله تعالى: {قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ}.
فهذه الصلوات والدعوات من الرسول هى قربة لهم عند اللّه، بمعنى أن دعاء الرسول للمؤمن، يعنى رضا الرسول عنه، وهذا الرضا هو في ذاته قربة عند اللّه للمؤمن، ينال به رضا اللّه ومغفرته، سواء أكان دعاء الرسول ورضاه عن نفقة أنفقها المؤمن، أو عن كلمة طيبة قالها، أو مسعى حميد سعى به بين المسلمين، أو موقف كريم وقفه، أو مشهد حسن شهده.. وقد دعا الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لعثمان رضى اللّه عنه، حين أنفق ما أنفق في تجهيز جيش العسرة فقال: «اللّهم ارض عن عثمان فإنى أصبحت عنه راضيا»! فكان عثمان بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنّة.
وقوله تعالى: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو الجزاء الذي سيجزيه اللّه هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل اللّه، فنالوا رضا اللّه عنهم، ورضا رسوله، وصلواته عليهم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11